إن خطوات الاحتلال البريطاني للبصرة التي بدأت في شهر تشرين الثاني سنة 1914 ، لم تكن وليداً آنياً ، وإنما كانت نتاج جهود تعود إلى مطلع النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، إذ أشارت إلى ذلك مذكرة العقيد رولينسون Rolinson Colonel ، القنصل البريطاني في بغداد ( 1843 - 1859 ) إلى حكومته ، في 13 حزيران سنة 1853 ، فقد تضمنت دعوة إلى احتلال كامل قطاع الإقليم من الزاب الأسفل إلى البحر . . . في حالة تقسيم الدوبة العثمانية .
كانت البصرة ـ بالنسبة فيما يخص الإستراتيجية البريطانية ـ في تنظيم حربي قبل الحرب بين هيئة الأركان العامة في وزارة الدفاع البريطانية وهيئة الأركان العامة في قيادة الجيش الهندي ضمن المناطق الداخلية في اختصاص الأركان العمة في الهند ، ووفقاً لذلك كانت الأخيرة مسئولة علنها بخصوص جمع وتمحيص المعلومات وتحضير الخطط للعمليات العسكرية .
ومع تنامي المصالح البريطانية واشتداد المنافسة الألمانية ، في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ، قررت بريطانيا إن تقوم بدراسة الوسائل الممكن استخدامها لحماية مصالحها وبذلك عهدت حكومة الهند والبريطانية إلى لجنة من أربعة مسئولين ، اثنان من كبار العسكريين وآخران من السياسيين ـ للنظر في الأمر ، سنة 1911 . وكان نتيجة عملها تقريراً قدمته ، في الشهر الأول من السنة التالية ، جاء فيه ضمن توصياتها الأخرى لتعزيز مكانة بريطانيا في الخليج العربي ، تأييدها احتلال الفاو والبصرة ، ولكن حكومة الهند رأت في المقترحات العسكرية أنها سابقة لأوانها على الرغم من أنها قدرت في الوقت ذاته ، فائدة الهجوم على البصرة ، في حالة الحرب مع الدولة العثمانية ، ولذا فقد طرح التقرير جانباً ، وطلبت وزارة الهند في لندن ـ في شهر تموز من العام نفسه ، أي قبيل بدأ الحرب بمدة وجيزة ، من حكومة الهند دراسة وابتداء وجهة النظر فيه ، وقد أدى اشتعال الحرب في مطلع شهر آب إلى تجاوزه إلى الخطط أوسع منه .
دخلت بريطانيا الحرب العالمية الأولى ، في الرابع من شهر آب سنة 1914 ، محتجة لخرق ألمانيا لحياد بلجيكا . ولم تدخل الدولة العثمانية الحرب ، في أول الأمر ، لكنها أعلنت التعبئة العامة في الحادي والثلاثين من تموز ، على إن يبدأ بها في الثلث من شهر آب ، وأوضحت بأنها إجراء وقائي يتطلب بضعة أشهر لتحقيقه .
وخلال المدة وبين إعلان التعبئة ودخول العثمانيين للحرب ، في أواخر شهر تشرين الأول ، بذلت ألمانيا جهوداً كبيرة لإدخالهم في الحرب وقد نجحت في ذلك لنفوذها الكبير ، في العاصمة العثمانية ( الأستانة ) ، وكذلك الاستفزاز الذي سببه حادث اليوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول، حين خرج الأميرال الألماني سوشون Souchon على متن قطع من الأسطول العثماني وهاجم عدداً من الموانئ الروسية المطلة على البحر الأسود ، ولم تكن الوزارة العثمانية على علم بالأمر .
وقد احتجت روسيا وبريطانيا وفرنسا بشدة وأعلنت الأولى الحرب ، في اليوم الثاني من الشهر التالي بينما أعلنتها الأخيرتان ، في اليوم الخامس منه ، وهكذا دخلت الدولة العثمانية الحرب ، ولم يكن دخولها مفاجئاً بقدر ما كان متوقعاً فيما يخص بريطانيا ولذلك نجدها بكرت في متابعة خططها لحماية مصالحها في الخليج العربي ، وكانت أولى المراسلات بين وزارة الهند في لندن ونائب الملك في الهند بهذا الخصوص في 18 / آب / 1914 ، وعقدت عدة مؤتمرات عسكرية في لندن لاستعراض الموقف وبناء على مشاورات دارت بين وزارة الهند والخارجية والبحرية ابرق القائد البحري العام في الهند إن يرسل السفينتين الحربيتين ( أودن ولورنس Odin & Lawarence ) إلى شط العرب ، بأسرع ما يمكن لمراقبة إجراءات الموقف العثماني ومنع أية محاولات لإغلاق الشط ، ولكن قيادة البحرية في لندن ، اقترحت من جانبها ما هو اكبر من ذلك كأن تجهز جملة عسكرية في كراجي وتتجه سريعاً إلى الخليج العربي ويتمركز جزء منها على مسيرة يومين بحراً من شط العرب للتحرك نحوه عند الحاجة ، وقد حث الأميرال سليد Sir E . . Slade مستشار ونستون تشرشل Winston Churchill ، اللورد الأول للبحرية لشؤون الشرق الأوسط ، في 29 / آب / 1914 ، على تنفيذ الاقتراح المذكور ، وكان قد سبقه في تصور نتائج جيدة للمصالح البريطانية في حالة احتلال البصرة ، المقدم نوكس S . G . Knox المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي ، إذ أرسل تصوراً إلى حكومة الهند ، قبل تسعة أيام من ذلك .
وأيد اتخاذ إجراء عسكري وكذلك سير آرثر هرتزل Sir A . Hirtzel السكرتير السياسي لوزارة الهند ، في اليوم الثاني من شهر أيلول ، والفريق الأول سير بارو E . Barrow السكرتير العسكري للوزارة نفسها ، وقد رأى الأخير إن ترسل حملة عسكرية إلى المحمرة أو عبادان ، وكتب نائب الملك في الهند في اليوم الرابع من الشهر الأخير ، مذكرة إلى وزير الهند في لندن مبيناً إن السيطرة البريطانية على البصرة عظيم الأهمية والتأثير .
هكذا انفق المسئولين البريطانيون ، في حدود شهر أيلول من سنة 1914 ، على إرسال الحملة العسكرية إلى الخليج العربي ويكون هدفها الظاهري حماية حقول النفط في الاحواز وعند بدء الحرب تتحرك لاحتلال البصرة ، وقد اتخذت الحكومة قراراً حاسماً في الأمر في 2 تشرين الأول ، وأرسلت برقية إلى حكومة الهند في اليوم المذكور ، متضمنة قرارها وتعليماتها بصدد تنفيذه ، وقررت إن ترحل الحملة بعد ثمانية أيام ، بصورة سرية ، مع القوات العسكرية المزمع إرسالها إلى أوربا ، ويبقى أمرها سراً لحين وصول مقدمتها إلى شط العرب .
بناء على توجيه الحكومة البريطانية قررت حكومة الهند ، في الثالث من تشرين الأول ، إسناد قيادة الحملة إلى العميد ديلامين W . S . Dilamin وان تظم القوة اللواء السادس عشر والبطريتين الجبليتين الثالثة والعشرين والثلاثين من الفرقة
البصرة في الحرب العالمية الأولى ـ 4 ـ
السادسة الهندية ، كما اسند نائب الملك في الهند إلى سير برسي كوكيس Sinp . Cox مهمة مواكبة الحملة كضابط سياسي ، وحدد البحرين كنقطة تجمع للقوات البريطانية قبل انطلاقها إلى خطوة الاحتلال التالية ، وقد وافقت لندن على ذلك كما عدت الحجم المقدر للقوة العسكرية كافياً ، في المرحلة الأولى على إن يعزز بباقي الفرقة السادسة عند بدء الحرب .
إن التخطيط العسكري البريطاني ، شمل في الوقت نفسه ، دوراً محسوماً للصلات البريطانية الوثيقة مع شيخي المحمرة والكويت ، خزعل خان ومبارك الصباح ، اللذين نالا الكثير من الدعم البريطاني ( لاستقلالهما ) ، وكذلك صلات التفاهم مع عبد العزيز بن سعود أمير نجد ، ولذا فقد سارع المقدم نوكس ، المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي ـ منذ شهر آب إلى مفاتحتهم بالأمر ، وقد أيد كل منهم الخطوات البريطانية مع الاستعداد ولتقديم الدعم الممكن ، وقد نقل نوكس هذا الموقف إلى لندن في الرابع من أيلول سنة 1914 ثم طلب ـ بإيعاز رسمي من حكومته ـ إلى زعماء العرب ، المشار إليهم ، تقديم العون للبريطانيين في احتلال البصرة أو عرقلة الإمدادات العثمانية ومنع وصولها إليها لحين مجيء طلائع القوات البريطانية .
وتعهد لهم إن لا تعيد بريطانيا البصرة بعد احتلالها إلى العثمانيين ولكنها تستثني من ذلك بساتين شيخي المحمرة والكويت الكائنة في البصرة من كل الضرائب وتعترف باستقلال الكويت تحت حمايتها وتتعهد بالدفاع عن إمارة الاحواز ، ولكن على الرغم من تأييد الزعماء الثلاثة للموقف البريطاني نجدهم أحجموا عن إشهار تعاونهم مع البريطانيين وطدوا علاقاتهم مع العرب في منطقة الخليج أكثر من ذي قبل لتحركهم العسكري ، ولذا نجد وزير الهند يطلب من نائب الملك في الهند ، في اليوم التالي لإقرار الحملة العسكرية ، إن يوصي قائدها بتجنب الاحتكاك مع العرب وأكد هذا الموقف ، مرة أخرى ، في اليوم التاسع والعشرين من الشهر نفسه ، حين أشار ، في رسالة له إلى نائب الملك إلى أهمية كسب العرب لأنه هدف أولي
الأربعاء 26 مارس 2014 - 4:07 من طرف 
